حالة العالم قبل البعثة النبوية الشريفة
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ﴾ ... [الأحزاب:21]
بُعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والناس في ضلالة عمياء، وجاهلية جهلاء، والعالم يموج بألوان مختلفة من الشرك والظلم والتخلف والانحدار والبعد عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وفي صدارة العالم دولتان فقدتا مقومات البقاء، وانحدرتا إلى مستوى البهائم العجماء، فالفرس مجوس يعبدون النار، ويُحلون نكاح المحارم، ويغرقون في لُجِّيٍّ من الخرافات، والروم حرفت المسيحية، واعتنقت خرافة الثالوث، وعقيدة الصلب والفداء وباتت مُخترقة من عدة وثنيات أفلحت في إضلالها، ومن وراء هؤلاء يهود غضب الله عليهم لضياع الدين بينهم، واتخاذهم أحبارهم أرباباً من دون الله ، يحلون لهم ما حرم ويحرمون ما أحل، وهنود يُطبقون على عبادة العجول والأبقار، ويونان قد مسختهم الأساطير الكلامية والفلسفات المنطقية، وصدتهم عن سبيل الهدى وديانات أخرى كثيرة تنّشر هنا وهناك في أرجاء المعمورة، وتتشابه في أوصاف التخبط والانحلال والاضطراب والحيرة، وكان سبب شقاء هذه الحضارات المزعومة، والمدنيات المحرومة قيامها على أسس مادية فقط دون أن يكون لها أي تعلق بنور الوحي الإلهي، لا جرم أَنْ نظر الله لأي أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا أهل الكتاب،كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذه البقايا تتمثل في أفراد أبت أن تنزلق في أوحال الشرك وظلت ثابتة على منهج التوحيد منتظرة خروج نبي جديد بشرت به أنبياؤهم، وتعلقت به أحلامهم.
ولم يكن العرب أحسن حالاً من هذه الأمم، فقد بدّل لهم عمرو بن لُحِي الخزاعي ديانة إبراهيم الخليل التي كانوا يدينون بها، ومن ثم نُشر الشرك بين أهل مكة وخارجها، حيث كان أهل الحجاز أتباعاً لمكة لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم، وبانتشار الوثنية بين العرب كثرة الخرافات الدينية التي أثرت بدورها في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تأثيراً بالغاً.
* أما سياسياً :
فقد كانت أحوال القبائل داخل الجزيرة العربية مفككة الأوصال، تغلب عليها النزعة القبلية والطبيعة العنصرية التي يعبر عنها شاعرهم بقوله:
ولم يكن لهم ملك يدعم استقلالهم ، أو مرجع يلجئون إليه وقت الشدائد، ومع هذا فقد كان لهم نوع استقلال بخلاف البلاد المتاخمة للدول الكبرى، فقد كانت أشبه بالعبيد لديهم، فقد حكم الفرس العراق، وغلبت الروم على بلاد الشام، والأحباش على اليمن، وعاشت هذه الأقطار العربية انحطاطاً لا مزيد عليه، ومورست معها ألوان مختلفة من الظلم والاستبداد والقهر والعبودية. ذلك أن الدول المتسلطة على هذه الأقطار كانت ترى العرب عبيدا همجيين لا حضارة لهم.
* وأما أحوال العرب الاجتماعية :
فقد كانت في الحضيض الأسفل من الضعف والعماية، يُغير بعضهم على بعض فيقتل ويسبى، ويخوضون الحروب الطاحنة لأتفه الأسباب، يئدون البنات خشية العار، ويقتلون الأولاد خشية الفقر والافتقار، لا يتحاشون من الزنا، ولا يستحيون من الخرافات، ويعاملون المرأة كالسلعة المهينة نكاحاً وطلاقاً، ومعاشرة وإرثاً، ويستمرئون الجهل، ويُحَكِّمون العادات.
* أما أحوالهم الاقتصادية :
فقد تأثرت بالأحوال الاجتماعية فقد ساد الفقر والجوع والعري لانعدام الأمن، كما كانوا أبعد الأمم عن الصناعة لغلبة البداوة عليهم، وإن وجد شئ من الزراعة في بعض بلدانهم، وراجت التجارة في الأشهر الحرم، إلا أن الحروب الطاحنة والإغارات المستمرة كانت تلقي بظلالها على أي مظهر من مظاهر التنمية.
* وأما أحوالهم الخلقية :
فقد كان فيهم من الدنايا والرذائل ما ينكره العقل السليم، لكنهم حافظوا على جملة من الأخلاق تميزوا بها عن سائر الأمم حينئذ كالوفاء بالعهد وعزة النفس ومضاء العزيمة وإباء الضيم والنخوة والمروءة والشجاعة والكرم وغير ذلك من الصفات التي شاع الفخر بها في أشعارهم.
والمتأمل لحالة العرب قبل الإسلام ، وحالة الأمم الأخرى من غيرهم يمكن أن يستنتج بعض الحكم التي كانت سببا في تشريفهم بحمل عبء الرسالة العامة، وقيادة الأمة الإنسانية والمجتمع البشري إلى أعظم الرشد وأبين الهدى.
و من حكمة اختيار العرب لهذه المهمة
أنهم أقل الأمم حينئذ حضارة وأبعدهم عن المدنية، فهم قوم أميون كما وصفهم الله ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُم[الجمعة: من الآية2] إذ لو كانوا متحضرين كأهل المدنيات المجاورة من فرس ورمان ويونان لربما قال قائل : أنه انفعال حضاري وارتقاء مدني، بل شاء الله أيضاً ان يكون رسول هذه الأمة أمياً كذلك تأكيداً لذات المعنى ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾[العنكبوت:48] لقد شاء الله أن تكون معجزة النبوة والشريعة واضحة في الأذهان لا لبس فيها.
ومن حكمة اختيار العرب لمهمة قيادة البشرية
حفاظهم على الأخلاق التي لم تعرف لغيرهم على هذا النحو خصوصاً : الوفاء بالعهد وعزة النفس ومضاء العزم إذ لا يمكن لأي أمة بدون هذه الصفات أن تحمل أمانة أو تتحمل مسؤولية ولا يمكن قمع اشر والفساد ، وإقامة العدل والخير إلا بهذه القوة القاهرة وبهذا العزم الصميم والذي خلت منه الأمم الأخرى. وقد ظهر هذا البرهان العملي من خلال المواجهات التي ثبتوا فيها أمام العالم أجمع وتحدوا فيها أرقى الأمم حضارة، وأكثرها عددا وأمضاها سلاحاً لذلك أظهر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتزازه بالمشاركة في تعزيز مبادئ الحق وإقرار مكارم الأخلاق، وقد شهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حلف الفضول وكان في العشرين من عمره، وقد كانت رجولته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القمة بَيْدَ أن قواه الروحية وصفاءه النفسي جعلا هذه الرجولة تزداد بمحامد الأدب والاستقامة والقنوع. فلم تُؤثرَ عنه شهوة عارضة، أو نزوة خادشة، أو حكيت عنه مغامرة لنيل جاه أو اصطياد ثروة، بل على العكس بدأت سيرته تومض في أنحاء مكة بما أمتاز به عن أقرانه ـ إن صحت الإضافة؟ ـ من خِلالٍ عذبه، وشمائلَ كريمةٍ وفكرٍ راجحٍ ومنطقٍ صادقٍ ونهجٍ أمينٍ.
إرسال تعليق