انها الساعة الثانية من بعد الظهر. حان وقت الغداء. دخلت المطبخ فرأيتها تفرغ علبة المعكرونة في قدرٍ من الماء الساخن، وبجانبها قدر أصغر يحتوي على الصلصة الحمراء التي تتطاير فقاعاتها أبعد من حدود الوعاء من شدة الغليان. فتحت البراد لأتناول صحن الخضار، فاذا بأُخرى تدخل المطبخ وتلقي بكيس الخضار على الطاولة وتسحب منه باقة بقدونس، ومن ثم باقة الصعتر الأخضر، ومن بعدها باقة الفجل الأحمر الدائري، وأخيرًا الخس لتضع الكل في المجلى الذي تحوّل الى بستانٍ أخضر صغير وافر المحاصيل. اليوم، هي ستحضّر الفتّوش.
أنا لست في مطبخ البيت. أنا لست عند والدتي وخالاتي. أنا لست مدعوّة عند إحدى صديقاتي. أنا في كافيتيريا العمل!
استوقفني المشهد برهة. وما كان مني إلا أن يذهلني ما أرى أمامي وأن أجد نفسي أقارن ما بين مشهد المطبخ الذي اعتدت عليه قبلا في وظيفاتي السابقة وما أراه الآن.
فلغاية اليوم، شاءت الظروف والفرص التي تقدمت لي في حياتي المهنية أن أعمل في كبرى الشركات متعددة الجنسيات في أكثر من بلدٍ عربي وأجنبي. وكان أن غالبية الزملاء في هذه الشركات هم من الرجال. ففي طبيعة الحال، وجدت نفسي في محيط ذكوري، ومنطق تغلب عليه العقلية الذكورية في مختلف تجلّياتها: من المنافسة المستعرة في مهمات العمل اليومية، الى النكات الثقيلة التي تجد رونقاً في ابتذالها أحيانًا فقط لأنها تُسرد بصوت الرجل ولأذن الرّجل تُتلى. ومن ثمّ الى الحديث والاسهاب في أحدث الألعاب الالكترونية ومقارنة الملفات المحمّلة على الهواتف النقالة... ومن ثمّ هناك نمط الغذاء الذي، وبدون إرادتي فعلاً، اصبح نمطي، كوني رافقت زملائي الرّجال وأكلنا سويّا بشكلٍ يومي. وأقول بأن نمط المجموعة الذكورية في الغذاء مختلف عن نمط الجنس اللطيف. فلا أذكر يوماً زميلاً جاء بباقات البقدونس الى المكتب اذ يشعر برغبة بأكل التبولة اليوم، ولا بكيلو طحين للعجن والخبز لفطور المناقيش ولا بأكياس الفول والحمص لتقديم الطعمية والاستمتاع بالمشاركة مع الآخرين! الزملاء الرّجال يفضلون أن تكون الأطباق حاضرة ناطرة، جاهزة للالتهام. فالوقت ثمين، وهو لاصطياد الصفقات وتحقيق الثروات.
أما المرأة العاملة، فهي قبل كل شيء امرأة. ولذلك والى حدٍّ ما، وأحيانًا الى أقصاه، تنقل عاداتها في التدبير المنزلي الى مكان عملها، فتراها تولي وقت الغذاء الاهتمام الكامل، لتتحول الساعة الى طقسٍ مقدّس، له رموزه، عاداته وتقاليده، كما وأحاديثه.
مع زملائي الرجال، كانت ساعة الغذاء امتداداً غير رسميّ لمناقشات العمل ومجرياته. أما عند زميلاتي الحديثات، فتحدّ امتداد العمل الى المطبخ، أحاديثٌ نسوية، تتخللها، على سبيل المثال دون الحصر، أحدث الوصفات في الطعام، طرائف الأولاد أو مشاكلهم في البيت وفي المدرسة، المشاعر وتقلّبات المزاج التي كُتبت حصريًّا للنساء أن يختبرنها بشكلٍ دوريّ، تعليقات الثناء أو الذمّ المبطّن بذوق الموضة عند زميلةٍ أو عند أُخرى، الوزن في نقصانه أو في زيادته، وجولة على آخر الأخبار التي سمعنها على الراديو عند الصباح أو حضرنها في نشرة الأخبار المسائية. وقلّما ما يكون التعليق على الأخبار السياسية والاقتصادية وغالبًا ما تكون الأخبار الاجتماعية والانسانية والترفيهية هي الأسبق.
أكلتُ المعكرونة! وشاركت زميلاتي في الغذاء والأحاديث. واستمتعت بطقس الغذاء الأنثوي دون أن أحكم عليهن بالنسبة لزملائي السابقين. ففي النهاية أنا منهنّ ولو لم أشاركهنّ في الكثير من الأذواق والاهتمامات.
انتهت الساعة ودقّت ساعة العمل من جديد. إنه موعد الإجتماع الأسبوعيّ الذي اقترحته على رؤساء الأقسام، كوسيلة للتواصل الفعّال والدائم. وإذا بسيدات المطبخ يخلعن المئزر، ويلبسن السترات، فرأيت نفسي جالسة بين سيدات الأعمال، وقد أصبح الآن بيني وبينهنّ الكثير من الأمور المشتركة.
يبدأ النقاش، وتمتدّ الطروحات، وتتمّ المفاوضات. أجد نفسي في جوّ العمل النموذجي. وإذا بزميلةٍ تطرق باب صالة الإجتماع. "تفضّلي"، فتفضّلت مع اعتذارها لقطع الاجتماع وعلى وجهها علامات التكدّر، والانزعاج، والاستفهام الجدّي. "لا مشكلة! هدّئي من روعك!" قلت لها مع ابتسامة مُطمئنة. "هاتي، ما لديك؟". بعد أن أخذت نفسًا عميقًا وهدأت قليلًا، نطقت وهي تستجدي الأمل في عينيها اللتين جالتا على الحاضرات: "هل رأى أحدكم ركوة القهوة الصغيرة؟!"
إرسال تعليق